Saturday 22 February 2014

شرح أحاديث الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر - ترك ما لا يعنيه والإشتغال بما ينفعه








وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب
و قيل فيه  جماع آداب الخير ، مثل قول  النبي :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت )  
ومعنى هذا الحديث
 أن من حسن إسلامه:ـ  تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال
 ومعنى يعنيه :ـ أن تتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه،
 والعناية شدة الاهتمام بالشيء يقال عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه .
ولا يكون ترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس،  بل بحكم الشرع والإسلام ، ولهذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال ، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات ، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات ، كما قال النبي : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )
ينبغي للإنسان أن يتطلب محاسن إسلامه فيترك ما لايعنيه ويستريح، لأنه إذا اشتغل بأمور لاتهمّه ولاتعنيه فقد أتعب نفسه. 

وهنا قد يَرِدُ إشكالٌ: وهو هل ترك العبد ما لايعنيه هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

والجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يعني الإنسان، كما قال الله عزّ وجل : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(آل عمران: الآية104)
فلا يقال لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر اترك ما لا يعنيك ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الأمة الإسلامية كلها.

ومن ذلك أيضاً: ما يتعلق بالأهل والأبناء والبنات فإنه يعني راعي البيت أن يدلّهم على الخير ويأمرهم به ويحذرهم من الشر وينهاهم عنه. قال الله عزّ وجل:  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ( التحريم: الآية6)   
وإذا حسن إسلام المسلم  فاقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات أو المشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه ، فمن عَبَد الله وهو يستشعر هذا  فقد حسن إسلامه ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه فيه.
 فإنه يتولى من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى رجلًا : ( أن يستحيى من الله كما يستحيى من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه ) ضعيف

وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: (  الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما وعي وتحفظ البطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء )
قال بعضهم استحيى من الله على قدر قربه منك وخف الله على قدر قدرته عليك وقال بعض العارفين: ( إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك وإذا سكت فاذكر نظره إليك.)
 وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى ‏:{ ‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}‏ ق16}
 وقوله تعالى ‏: { ‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏ } ( ‏ يونس 61)
وقال تعالى ‏:{ ‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏} (‏ الزخرف 80)
وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأول التي هي في سورة ق

وفي المسند من حديث الحسن عن النبي قال: (  إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه )

وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتى النبي رجل فقال يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم؟  قال له : ( مرهم بإفشاء السلام وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم )

وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث تزود لمعاد أو حرفة لمعاش أو لذة في غير محرم ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه .

قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وهو كما قال فإن كثيرًا من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه ولا يتحري لما يقول .
وقد خفي هذا على معاذ بن جبل رضي الله عنه حتى سأل عنه النبي فقال : ( أنؤاخذ بما نتكلم به)   فقال: (  ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم )البخاري
وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم فقال سبحانه : {  لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } (النساء 114)

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي قال: ( كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل )

وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال توفى رجل من أصحابه يعني النبي فقال رجل أبشر بالجنة فقال رسول الله: ( أو لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه ) وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي وفي بعضها أنه قتل شهيدًا

قال عمرو بن قيس الملائي مر رجل بلقمان والناس عنده فقال:  له ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى،  قال الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا ؟ قال:  بلى ، فقال فما بلغ بك ما أرى ، قال: صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني
ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه فقال : ما من عمل أوثق عندي من خصلتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين

فمن ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ( إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل )  فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لا بد منه ، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة

وخرج النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي قال:( إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله )

وفي صحيح مسلم أيضًا عن حكيم بن حزام قال:{  قلت يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر فقال رسول الله : {  أسلمت على ما أسلفت من خير }  وفي رواية قال فقلت:  والله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا صنعت في الإسلام مثله .
وهذا يدل على أن حسنات الكافر إذا أسلم يثاب عليها كما دل عليه حديث أبي سعيد المتقدم وقد قيل إن سيئاته في الشرك تبدل حسنات ويثاب عليها أخذا من قوله تعالى:  { ‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏ } (‏ الفرقان )

اللهم إنّا تسألك قلوباً خاشعة ، وألسنةً ذاكرة ، ودعاءً مستجاباً



No comments:

Post a Comment